إسمع يا فراس، الحلقة الأولى، بيروت

اسمع يا فراس

هذا المطار كان اسمه سابقاً مطار بيروت الدّولي ثمّ أصبح مطار رفيق الحريري بعد الحرب، وهذه طريق المطار. ينظر فراس من نافذة السّيارة حوله، ”أي طايفة كانت ساكنة هون بالحرب؟“ يسأل، فأعرف أنه قد استنشق الهواء المحلّي بالفعل.

صديقي فراس أردني ولا يعرف بيروت سوى من أغاني فيروز وبكائيّات محمود درويش ونعيق ماجدة الرّومي الّتي يحبّها لسبب ما. نصل إلى منطقة الرّوشة فنترجّل من السّيارة لرؤية الصّخرة الشّهيرة التّي تطلّ كالباسور المتورّم في كلّ الأفلام العربيّة للاعلان أنّ الممثّل جاء الى بيروت بحثاً عن صباح، (وها نحن نلوم الاعلام العربي اليوم على نشر صورة منمّطة عن المرأة اللّبنانيّة، ها!). ”ما عنّا بحر في الاردن“ يقول لي فراس.”عنّا بحر في فلسطين لكن مش شايفينو“. لا أجيبه. ماذا أقول له؟ يهدّك ياسرائيل؟ عائدون؟ سنرجع يوماً الى حيّنا؟ ماحنا منعرفش حيّنا يا فراس. ”في قهوة؟“، في قهوة يا فراس، تغرق فيها حنينك الّذي ”لا تعرف لمين“ لكن ليس في البوتي كافي الشّاهق المقيت. أصحبه الى انكل ديك لنتناول قهوة ونمشي على المنارة. 

المنظر على المنارة مختلف، فهي بيت الجميع، الصّياد البيروتي الأسمر وقد صبغته الشّمس بلون مخصّص لابناء السّاحل حصراً، ”الجغل“ المتريّض بالشّورت القصير اللّماع والزّيت يغطّي صدره العاري (اكسترا لارج)، الصّبايا ومحاولات الصّباح الدّائمة لفقدان الوزن والنّميمة على الّتي تغيّبت دون عذر مقنع. يمرّ الشّرطي على درّاجة هوائيّة، امرأة ترتدي زيّاً شرعياً ”قدّ المحيط“، ولدان يلعبان بطابة، فتاة مطليّة الوجه كاشفة قدراً كبيراً من الجلد ما بين النّهدين، شاب وشابّة على موعد غراميّ أوّل ويبدو كأنّه الأخير نظراً للتّعبير الممتعض على وجهها بعد أن حاول أخذ يدها بيده المتعرّقة.

اسمع يا فراس، تمتاز بيروت بمناخها المتوسّطي المعتدل، وبمزاج أهلها الغريبي الأطوار. في بيروت تقوم حرب أهليّة وتنتهي دون رابحين وخاسرين، تبقى منها مبانٍ مخردقة مثل حذاء ولد فقير. في بيروت يعيش النّاس فقرهم، يأكلونه مع المنقوشة صباحاً ثم يمسحون فمهم بجريدة قديمة قبل أن يقوموا إلى أعمالهم. يوماً بعد يوم، يمضغون خيبتهم معتادين على أن ”الرّزق على الله“ بدل أن يكون على وزارة العمل، و“الله الحامي“ بدل التّأمين الصحّي الالزامي، و“الك الله“ بدل تعويض نهاية الخدمة والتّقاعد. في بيروت لا يبقى سوى الله يا فراس، وهمٌ حُيِّك غطاءً على حجم عبيده، لا يقي من ريح ولا من موت أكيد. 

”تاجك من الشّمس مملكتك الزّمان“ تصدح فيروز من الرّاديو ونحن متجّهان الى الحمرا للغذاء، ”حلو انّو عندكم فيروز، ووطن، حلو عندكم وطن مش بسّ أغاني وقصائد، انّو في مكان حقيقي وذكريات تشتاقولها بس تهاجروا“. صدقت يا فراس، بس الاوطان الافتراضية فيها تضلّ نظيفة، حلم، ما الها ريحة زبالة ولا بيحكمها عرصات، الاوطان الحقيقيّة متعبة. ”والأوطان الافتراضيّة بتوجع كمان“، معك حقّ يا فراس.

اسمع يا فراس، في الحرب انقسمت بيروت إلى شرقيّة وغربيّة. ”زيّ برلين يعني؟“ آه زيّ برلين. لكن الشّرقية فُرزت للسّكان المسيحيّين والغربيّة للمسلمين. ”ما ظلّ في مسلمين بالشّرقيّة؟ مبلا بقي البعض، مثل جارتنا في الحيّ، إمّ علي، بقيت لليوم، بحجابها ”القمطة“ وبلكنتها الجنوبيّة ورائحة الكشك والزّعتر. ”ما قتلتو بعضكم بالحرب؟“ مبلا، مبلا قتلنا بعضنا. ”واليوم؟“ انتهت الحرب يا فراس أجيبه ولا أعرف ان كانت فعلاً انتهت وولّت الى غير رجعة. في داخل كلّ منّا، نحن أبناء الثّمانينات طفل خائفٌ من صوت القذائف ومن قنّاص النّبعة، يختبئ في ظلّ أبيه المارد في ”كوريدور“ البيت يلعب بركوة القهوة يضرب عليها في ظلّ ”اللوكس“ ليصنع صوتاً يشبه الموسيقى يغطّي على صرير غارة وهميّة أصابته في عضلة قلبه الرّاجفة.  ما نفع وهميّة الغارة ان كان القلب راجفاً؟             

نتوجّه بعدها الى الأشرفيّة مروراً بجسر الرّينغ. الرّينغ يا فراس كان معبراً أيّام الحرب، يفصل المنطقتين ب“كونتينيرات“ ضخمة تحجب الشّمس والرّؤية والأمل، وكان يُفتح في أيّام قليلة مع وقف إطلاق النّار المتّفق عليه سابقاً ”لتسهيل أمور السّكان“.  ”آه هادا الجسر الّي سكّروه الثّوار من كم يوم؟“ نعم هذا هو، رمز الحرب، هذا كان حائطنا البرلينيّ العتيد.  

”طب الثّوار مين؟ مسيحيّين؟“ لأ. ”طب مسلمين؟، كتائب؟ فلسطينيّي؟ يساريّين؟ مين؟“ يسآلني فراس محتاراً. جميعهم أجيبه. ”يعني خلصت الحرب؟“   

Leave a comment